فصل: فَصْل في رسالة عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز إلى بعض عماله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فَصْل في رسالة عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز إلى بعض عماله:

وكتب عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز إلى بعض عماله، أما بعد فإنه لم يظهر الْمُنْكَر فِي قوم قط ثُمَّ لم ينههم أَهْل الصلاح مِنْهُمْ إِلا أصابهم الله بعذاب من عنده أَوْ بأيدي من يشاء من عباده، ولا يزال النَّاس معصومين من العقوبات والنقمَاتَ مَا قُمِعَ أَهْل الْبَاطِل واستخفى فيهم بالمحارم.
فلا يظهر من أحد محرم إِلا انتقموا ممن فعله فَإِذَا ظهرت فيهم المحارم فَلَمْ ينههم أَهْل الصلاح أنزلت العقوبات من السماء إلى الأَرْض ولعل أَهْل الإدهان أن يهلكوا ومعهم وإن كَانُوا مخالفين لَهُمْ، فإني لم أسمَعَ الله تبارك وتَعَالَى فيما نزل من كتابه عِنْدَ مثلة أهلك بها أَحَدًا نجى أَحَدًا من أولئك أن يكون الناهين عَنْ الْمُنْكَر.
ويسلط الله على أَهْل تلك المحارم إَِنْ هُوَ لم يصبهم بعذاب من عنده أَوْ بأيدي من يشاء من عباده من الخوف والذل والنقم فإنه ربما انتقم بالفاجر من الفاجر وبالظَالِم من الظَالِم ثُمَّ صار كلا الفريقين بأعمالهما إلى النار، فنعوذ بِاللهِ أن يجعلنا ظالمين، أَوْ يجعلنا مداهنين للظالمين.
وأنه قَدْ بلغني أَنَّهُ قَدْ كثر الفجور فيكم وأمن الفساق فِي مدائنكم وجاهروا بالمحارم بأمر لا يحب الله من فعله ولا يرضى المداهنة عَلَيْهِ، كَانَ لا يظهر مثله فِي علانية قوم يرجون لله وقارًا ويخافون منه غُيرًا وهم الأعزون الأكثرون من أَهْل الفجور، أي أَكْثَر من أهل الفجور وأعز مِنْهُمْ.
ولَيْسَ بذَلِكَ مضى أمر سلفكم ولا بذَلِكَ تمت نعمة الله عَلَيْهمْ بل كَانُوا: {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}.
ولعمري إِنْ من الجهاد الغلظة على محارم الله بالأيدي والألسن والمجاهدة لَهُمْ فيه وإن كَانُوا الآباء والأبناء والعشائر، وإنما سبيل الله طاعته.
وَقَدْ بلغني أَنَّهُ بطأ بكثير من النَّاس عَنْ الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر، إتقاء التلاوم أن يُقَالَ فلان حسن الخلق، قليل التكلف، مقبل على نَفْسه، وَمَا جعل الله أولئك أحاسنكم أخلاقًا بل أولئك أسؤكم أخلاقًا.
وما أقبل على نَفْسه مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، بَلْ أَدْبَرَ عَنْهَا، ولسلم من الكلفة لها بل وقع فيها، وإذ رضي لنفسه من الحال غير مَا أمره الله به أن يكون عَلَيْهِ من الأَمْر بالمعروف، والنهي عَنْ الْمُنْكَر.
وقَدْ دلت ألسنة كثير من النَّاس بآية وضعوها غير موضعها، وتأولوا فيها قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وصدق الله تبارك وتَعَالَى، ولا يضرنا ضلالة من ضل إِذَا اهتدينا، ولا ينفعنا هدي من اهتدى إِذَا ضللنا: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وإن مِمَّا عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَنْفُسِ أولئك مما أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يظهر لله محرمًا إِلا انتقموا ممن فعله مِنْهُمْ، من كنتم، ومن كَانُوا، وقول من قَالَ إن لَنَا فِي أنفسنا شغلاً، ولسنا من النَّاس فِي شَيْء.
ولو أن أَهْل طاعة الله رجع رأيهم إلى ذَلِكَ، مَا عمل لله بطاعة، ولا تناهوا لَهُ عَنْ معصية، ولقهر المبطلون المحقين، فصار النَّاس كالأنعام، أَوْ أضل سبيلاً، فتسلطوا على الفساق من كنتم ومن كَانُوا فادفعوا بحقكم باطلهم، وببصركم عماهم، فَإِنَّ الله جعل للأبرار على الفجار سلطانًا مبينًا، وإن لم يكونوا ولاة ولا أَئِمَّة.
من ضعف عَنْ ذَلِكَ فليرفعه إلى أمامه فَإِنَّ ذَلِكَ من التعاون على البر والتقوى، قَالَ الله لأَهْل المعاصي: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ}.
ولينتهين الفجار أَوْ ليهينهم الله بما قَالَ: {لنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} الآيَة.
وذكر ابن أبي الدُّنْيَا عَنْ أَنَس بن مالك أَنَّهُ دخل على عَائِشَة هُوَ ورجل آخر فَقَالَ لها الرجل: يَا أم الْمُؤْمِنِينَ حدثينا عَنْ الزلزلة، فقَالَتْ: إِذَا استباحوا الزنا، وشربوا الخمور، وضربوا بالمعازف، غار الله عَزَّ وَجَلَّ فِي سمائه، فَقَالَ للأرض: تزلزلي بِهُمْ، فَإِنَّ تابوا ونزعوا وإِلا هدمها عَلَيْهمْ.
قَالَ: يَا أم الْمُؤْمِنِينَ أعذابا لَهُمْ؟ قَالَتْ: بل موعظة ورحمة للمؤمنين ونكالاً وعذابًا وسخطًا على الكافرين. فَقَالَ أَنَس مَا سمعت حديثًا بعد رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا أشد فرحًا به مني بهَذَا الْحَدِيث.
وذكر ابن أبي الدُّنْيَا حديثًا مرسلاً: أن الأَرْض تزلزلت على عهد رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فوضع يده عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: اسكني فإنه لم يأن لَكَ بعد. ثُمَّ التفت إلى أصحابه، فَقَالَ: «إن ربكم ليستعتبكم فاعتبوه». ثُمَّ تزلزلت بِالنَّاسِ على عهد عُمَر بن الخطاب، فَقَالَ: أيها النَّاس مَا كَانَتْ هَذِهِ الزلزلة إِلا على شَيْء أحدثتموه، والَّذِي نفسي بيده لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدًا.
وفي مناقب عُمَر لابن أبي الدُّنْيَا أن الأَرْض على عهد عُمَر تزلزلت فضرب يده عَلَيْهَا، وَقَالَ: ما لك؟ أما إنها لو كَانَتْ القيامة حدثت أخبارك، سمعت رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا كَانَ يوم القيامة فلَيْسَ فيها ذراع ولا شبر إِلا وَهُوَ ينطق.
وكتب عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز إلى الأمصار: أما بعد فإن هَذَا الرجف شَيْء يعاقب الله عَزَّ وَجَلَّ به العباد، وَقَدْ كتبت إلى الأمصار أن يخرجوا فِي يوم كَذَا وَكَذَا فِي شهر كَذَا وَكَذَا فمن كَانَ عنده شَيْء فليتصدق به، فَإِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} وقولوا كما قَالَ آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وقولوا كما قَالَ يونس: {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.
إِلَهِي لَكَ الْحَمْدُ الَّذِي أَنْتَ أَهْلُهُ ** عَلَى نِعَمٍ تَتْرَى عَلَيْنَا سَوَابِغُ

وَقَدْ عَجِزَتْ عَنْ شُكْرِ فَضْلِكَ قُوَّتِي ** وَكُلُّ الْوَرَى عَنْ شُكْرِ جُودِكَ عَاجِزُ

اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخفيات ويا سامَعَ الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يَا خالق الأَرْض والسماوات أَنْتَ الله الأحد الصمد الَّذِي لم يلد ولا يولد ولم يكن لَهُ كفوًا أَحَد الوهاب الَّذِي لا يبخل والحليم الَّذِي لا يعجل لا رادَّ لأَمْرِكَ ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر ذنوبنا وتنور قلوبنا وتثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وتسكننا دار كرامتك إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.

.موعظة:

قَالَ الله تَعَالَى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}، قَالَ: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} فيا عباد الله لَقَدْ خاطبكم بهَذَا الخطاب الرائع ووصفهم بهَذَا الوصف العَظِيم، بأنهم خَيْر أمة أخرجت للناس، وأن مجتمعهم أعلا وأعز مجتمَعَ فِي العَالِم حاضره وماضيه لما اتصفوا به من الصفات الفاضلة، والأَخْلاق العالية، والغيرة الصادقة، على حدوده.
وَهَذَا الوصف وَقْت أن كَانُوا متمسكين بتعاليم دينهم، وكَانَ الإِسْلام وبهاؤه يلوح فِي أَعْمَالُهُمْ، ومعاملاتهم، وأخلاقهم فلا غش ولا خداع ولا كذب ولا خيانة ولا غدرًا، ولا نميمة، ولا غيبة، ولا قطيعة هدفهم الِقَضَاءِ على المنكرات وإماتتها، وإعزاز المعروف ونشره بين الْمُسْلِمِين، وَهَذَا يدل على قوة إيمانهم، وشدة تمسكهم به ورغبة فِي النجاة التي وعد الله بها الناهي عَنْ السُّوء، قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}.
فيا عباد الله تأملوا حالتنا الحاضرة، وحالة سلفنا الكرام الَّذِينَ كَانُوا كُلّ مِنْهُمْ يحب لأخيه مَا يحب لنفسه، ويرحم كبيرهم الصغير ويوقر الصغير الكبير، يتآمرون بالمعروف، ويتنأَهْوَن عَنْ الْمُنْكَر، ينصفون حَتَّى الأعداء من أنفسهم وأولادهم.
فالقوي عندهم ضعيف، حَتَّى يستوفي منه الْحَقّ، والضعيف عندهم قوي حَتَّى يؤخذ حقه، إِذَا فقدوا بحثوا عَنْهُ فَإِنَّ كَانَ مريضًا عادوه وَإِذَا مَاتَ شيعوه، وإن احتاج اقرضوه، وواسوه وإن نزل عَلَيْهمْ أكرموه.
عاملين بقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل الْمُؤْمِنِينَ فِي توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إِذَا اشتكى منه عضو تداعى لَهُ سائر الجسد بالسهر والحمى»، وحديث: «المُؤْمِن للمُؤْمِنِ كالبنيان يشد بعضه بَعْضًا».
أما نَحْنُ فحالتنا حالة مخيفة جدًا لأننا على ضد مَا ذكرنا من حالة سلفنا ولا حَاجَة إلى تكرار، ألق سمعك وقَلِّبْ نظرك، وأحضر قلبك تَرَى ذَلِكَ بعين بصيرتك وتَرَى مَا يخيفك ويقلق راحتك ويقض مضجعك من المنكرات فِي البيوت والأسواق والبر والبحر، ولا أدري هل بيتك خال من المنكرات التي سأذكرها فهنيئا لَكَ إِنْ شَاءَ اللهُ ولا أظنه خال مَنْهَا.
فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِن ذِي عَظِيمَةٍ ** وَإِلا فَإِنِّي لا إِخَالُكَ نَاجِيًا

وإن شككت ففتش على نفسك تجد ذَلِكَ، فالْمُنْكَر نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا بل وفي بيوتنا فهل بيتك خال من صورٍ ذوات الأرواح، هل هُوَ خال من المذياع، هل هُوَ خال من التلفزيون، والسينماء والبكمَاتَ ومسجلات الأغاني، هل هُوَ خال من شراب المسكرات، هل مَا يأتي لبيتك إِلا أناس طيبين طاهري الأَخْلاق، هل هُوَ خال من حالقي اللحى هل هُوَ خال من المخنفسين مطيلي أظافرهم تشبهًا باليهود، وهل هُوَ خال من المتشبهين بالمجوس والمتشبهين بالإفرنج، هل هُوَ خال ممن لا يشهدون صلاة الجماعة أَوْ لا يصلون أبدًا، هل هُوَ خال من النساء القاصات لرؤسهن المطيلات لأظفارهن، هل هُوَ خال من شرَّاب أب الخبائث الدخان، ونحوه من المنكرات وأما فِي الأسواق فحدث عَنْ كثرة المنكرات ولا حرج على حد قول المتنبي:
وقَدْ وَجَدَتُ مَكَانَ الْقَوْلِ ذَا سِعَةِ ** فَإِنْ وَجَدتَ لِسَانًا قَائِلاً فَقُل

آخر:
أَحْذِرْكَ أَحْذِرْكَ لا أَحْذِرْكَ وَاحِدَةَ ** عَن الْمِذَايِيعِ وَالتِّلْفَازِ وَالْكُرَةِ

كَذَا الْمَجَلاتِ مَعَ صُحْفٍ وَنَحْوِهما ** مَا حَصَّلُوا مِنْهَا إِلا الإثُمَّ وَالْعَنَتِ

كَمْ عِنْدَهَا ضَاعَ مِنْ وَقْتٍ بِلا ثَمَنٍ ** لَوْ كَانَ فِي الْبِرِّ نِلْتَ الأَجْرَ وَالصِّلَة

ومَعَ ذَلِكَ فلا ألسنة تنطق ولا قُلُوب تتمعر إِلا النوادر، الموجود هُوَ التلاوم والقيل والقَالَ، والمداهنة، والجلوس مع أَهْل المعاصي، ومحادثتهم ومباشرتهم وأظهار البشر لَهُمْ وتعظيمهم وتقليدهم فِي الأقوال والأفعال.
فيا عباد الله اتقوا الله واسلكوا طَرِيق سلفكم واصدعوا بالحق وأمروا بالمعروف وانهوا عَنْ الْمُنْكَر، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، قَبْل أَنْ يَحِلَّ بِكم مَا حَل بمن قبلكم، وتضرب قُلُوب بعضكم على بعض، قبل فتنة لا تصيبن الَّذِينَ ظلموا منكم خاصة، قبل أن تُلعنوا كما لعن الَّذِينَ من قبلكم، بسبب عدم تناهيهم عَنْ الْمُنْكَر.
قَالَ الله تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}.
فَيَا عِبَادَ اللهِ إِنَّ الأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لَمِنْ أَعْظَمِ الشَّعَائِرِ الإِسْلاميَّةِ، وَأَقْوَى الأُسُس التي يَقُومُ عَلَيْهَا بِنَاءُ الْمُجْتَمِعَاتِ النَّزِيهَةِ الرَّاقِيَةِ، فَإِذَا لم يكن أمر ولا نهي أَوْ كَانَ ولكن كالمعدوم، فعلى الأَخْلاق والمثل العليا السَّلام، ويل يومئذ للفضيلة من الرذيلة، وللمتدينين من الفاسقين والمنافقين.
فيا عباد الله تداركوا الأَمْر قبل أن يفوت الأوان وتعضوا على البنان فقَدْ قَالَ لكم سيد ولد عدنان: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فَإِنَّ لم يستطع فبلِسَانه، فَإِنَّ لم يستطع فبقَلْبهُ وَذَلِكَ أضعف الإِيمَان».
عباد الله بالأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر نأمن بإذن الله على الدين من الاضمحلال والتلاشي، ونأمن بإذن الله على الأَخْلاق الفاضلة من الذهاب والانحلال، والحذر والحذر من مخالفة القول للفعل، فتأثير الدعوة بالْفِعْل أقوى بكثير من الأقوال المجردة من الأفعال.
وفي المسند وغيره مِنْ حَدِيثِ عروة عَنْ عَائِشَة قَالَتْ: دخل عليَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ حفزه النفس فعرفت فِي وجهه أن قَدْ حفزه شَيْء، فما تكلم حَتَّى توضأ وخَرَجَ فلصقت بالحجرة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أيها النَّاس إن الله عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لكم: مروا بالمعروف وانهوا عَنْ الْمُنْكَر، قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم.
وَقَالَ العمري الزاهد: إن من غفلتك عَنْ نفسك وإعراضك عَنْ الله أن تَرَى مَا يسخط الله فتجاوزه، ولا تنهى عَنْهُ، خوفًا ممن لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا. قُلْتُ: وَمَا أَكْثَر المدلسين الساكتين الَّذِينَ يمرون بالجالسين أمام التلفزيون وعَنْدَ المذياع والكورة بل ولا يأمرونهم بالتي هِيَ أحسن ويمرون بأولادهم فِي فرشهم ولا يوقظونهم للصلاة وكَانَ أمرهم أمر مباح إن شَاءَ أنكر وإن شَاءَ ترك، وَقَالَ: من ترك الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر مخافة من المخلوقين نزعت منه الطاعة، ولو أمره ولده أَوْ بعض مواليه لا استخف بحقه.
وذكر الإمام أحمد عَنْ عُمَر بن الخطاب: توشك القرى أن تخرب وهي عامرة. قيل: وكيف تخرب وهي عامرة، قَالَ: إِذَا علا فجارها أبرارها وساد القبيلة منافقوها. قُلْتُ: وَمِمَّا يؤيد ذَلِكَ قوله تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} الآيَة، وإليك هَذَا نظم للأسباب التي بها حياة الْقَلْب فألق لها سمعك وأحضر قلبك تأتيك بعد الدُّعَاء.
اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغَفْلَة والنوم وأرزقنا الاستعداد لِذَلِكَ الْيَوْم الَّذِي يربح فيه المتقون، اللَّهُمَّ وعاملنا بإحسانك وجد عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ وامتنانك وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون، اللَّهُمَّ ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، اللَّهُمَّ اجعل قلوبنا مملؤة وألسنتنا رطبة بِذِكْرِكَ ونُفُوسنَا مطيعة لأَمْرِكَ وارزقنا الزهد فِي الدُّنْيَا والإقبال على الآخِرَة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
حَمِدْتُ الَّذِي أَغْنَى وَأَقْنَى وَعَلّمَا ** وَصَيَّرَ شكْرَ الْعَبْدِ لِلْخَيْرِ سُلَّمَا

وَأُهْدِي صَلاةً تَسْتِمَر عَلَى الرِّضَا ** وَأَصْحَابِهِ وَالآلِ جَمْعًا مُسَلِّمَا

أَعَادَ لَنَا فِي الْوَحْي وَالسُّنَنِ الَّتِي ** أَتَانَا بِهَا نَحْوَ الرَّشَادِ وعَلَّمَا

أَزَالَ بِهَا الأَغْلاف عَنْ قَلْبِ حَائِرٍ ** وَفَتَّحَ أَذَانَا أُصِمَّتْ وَأَحْكَمَا

فَيَا أَيُّهَا الْبَاغِي اسْتنَارَةَ عَقْلِهِ ** تَدَبَّرْ كِلا الْوَحْيَيْنِ وَانْقَدْ وَسَلِّمَا

فَعُنْوَانُ إسْعَادِ الْفَتَى فِي حَيَاتِهِ ** مَعَ اللهِ إِقْبَالاً عَلَيْهِ مُعَظِّمَا

وَفَاقِدْ ذَا لا شَكَّ قَدْ مَاتَ قَلْبُهُ ** أَوْ اعْتَلَّ بِالأَمْرَاضِ كَالرِّينِ وَالْعَمَا

وَآيَةُ سُقْمٍ فِي الْجَوَارِحِ مَنْعُهَا ** مَنَافِعَهَا أَوْ نَقْصُ ذَلِكَ مِثْلَمَا

وَصِحَّتُهَا تَدْرِي بِإتْيَان نَفْعِهَا ** كَنُطْقِ وَبَطْشِ وَالتَّصَرُّفِ وَالنَّمَا

وَعَيْنُ امْتِرَاضِ الْقَلْبِ فقدُ الَّذِي لَهُ ** أُرِيدَ مِن الإِخْلاصِ وَالْحُبِّ فَاعْلَمَا

وَمَعْرِفَةٌ وَالشَّوْق إِلَيْهِ إِنَابَةً ** بِإِيثَارِهِ دُونَ الْمَحَبَّاتِ فَاحْكمَا

وَمُوثِرُ مَحْبُوبٍ سِوَى اللهِ قَلْبُهُ ** مَرِيضٌ عَلَى جُرْفٍ مِنَ الْمَوْتِ وَالْعَمَا

وَأَعْظَمُ مَحْذُورٍ خَفَى مَوْتُ قَلْبِهِ ** عَلَيْهِ لِشُغْلِ عَنْ دَوَاهُ بِصَدِمَا

وَآيَةُ ذَا هُونُ الْقَبَائِحِ عِنْدَهُ ** وَلَوْلاهُ أَضْحَى نَادِمًا مُتَأَلِّمَا

فَجَامِعَ أَمْرَاضٍ الْقُلُوبِ اتَّبَاعُهَا ** هَوَاهَا فَخَالِفَهَا تَصِحَّ وَتَسْلَمَا

وَمِنْ شُؤْمِهِ تَرْكُ إِغْتِذَاءٍ بِنَافِعٍ ** وَتَرْكُ الدَّوَا الشَّافِي وَعَجْزٌ كِلاهُمَا

إِذَا صَحَّ قَلْبُ الْعَبْدِ بَانَ ارْتِحَالُهُ ** إلى دَارِهِ الأُخْرَى فَرَاحَ مُسَلِّمَا

وَمِنْ ذَاكَ إِحْسَاسُ الْمُحِبِّ لِقَلْبِهِ ** بِضَرْبٍ وَتَحْرِيكٍ إِلَى اللهِ دَائِمَا

إلى أَنْ يُهَنَّا بِالإِنَابَةِ مُخْبِتًا ** فَيَسْكُنُ فِي ذَا مُطْمَئِنًا مُنَعَّمَا

وَيَصْحَبُ حُرًّا دَلَّهُ فِي طَرِيقِهِ ** وَكَانَ مُعِينَا نَاصِحًا مُتَيَمِّمَا

وَمِنْهَا إِذَا مَا فَاتَهُ الْوِرْدُ مَرَّةً ** تَرَاهُ كَئِيبًا نَادِمًا مُتَأَلِّمَا

وَمِنْهَا اشْتِيَاقُ الْقَلْبِ فِي وَقْت خِدْمَةٍ ** إِلَيْهَا كَمُشَتَدٍّ بِهِ الْجُوعُ وَالظَّمَا

وَمِنْهَا ذِهَابُ الْهَمِّ وَقْتَ صَلاتِهِ ** بِدُنْيَاهُ مُرتَاحَا بِهَا مُتَنَعِّمَا

وَيَشْتَدُّ عَنْهَا بَعْدَهُ لِخُرُوجِهِ ** وَقَدْ زَالَ عَنْهُ الْهَمَّ وَالْغَمُّ فَاسْتَمَا

فَأَكْرِمْ بِهِ قَلْبًا سَلِيمًا مُقَرَّبًا ** إِلَى اللهِ قَدْ أَضْحَى مُحِبًّا مُتَيَّمًا

وَمِنْهَا اجْتِمَاعُ الْهَمِّ مِنْهُ بِرَبِّهِ ** بِمَرْضَاتِهِ يَسْعَى سَرِيعًا مُعَظَّمَا

وَمِنْهَا اهْتِمَامٌ يُثْمِرُ الْحِرْصَ رَغْبَةً ** بِتَصْحِيحِ أَعْمَالٍ يَكُونُ مُتَمِّمَا

بِإِخْلاصِ قَصْدٍ وَالنَّصِيحَةَ مُحْسِنًا ** وَتَقْيِيدِهِ بِالاتِّبَاعِ مُلازِمًا

وَيَشْهَدُ مَعْ ذَا مِنَّةَ الله عِِنْدَهُ ** وَتَقْصِيرَهُ فِي حَقِّ مَوْلاهُ دَائِمَا

فَسِتٌ بِهَا الْقَلْبُ السَّلِيمُ ارْتِدَاءِهُ ** وَيَنْجُو بِهَا مِنْ آفَةِ الْمَوْتِ وَالْعَمَا

فَيَا رَبِّ وَفَّقَنَا إلى مَا نَقُولُهُ ** فَمَا زِلْتَ يَا ذَا الطُّولِ بَرًّا وَمُنْعِمَا

فَإِنِّي وَإِنْ بَلَغْتُ قَوْلَ مُحَقِّقٍ ** أَقِرُّ بِتَقْصِيرِي وَجَهْلِي لَعَلَّمَا

وَلَمَّا أَتَى مِثْلِي إلى الْجَوِّ خَالِيًا ** مِنَ الْعِلْمِ أَضْحَى مُعْلِنًا مُتَكَلِّمَا

كَغَابِ خَلا مِنْ أُسْدِهِ فَتَوَاثَبَتْ ** ثَعَالِبُ مَا كَانَتْ تَطَافِي فِنَا الْحِمَا

فَيَا سَامِعَ النَّجْوَى وَيَا عَالِمَ الْخَفَا ** سَأَلْتُكَ غُفْرَانًا يَكُونُ مَعَمِّمَا

فَأَجْرَأَنِي إِلا اضْطِرَارٌ رَأَيْتُهُ ** تَخَوَّفْتُ كَوْنِي إِنْ تَوَقَّفْتُ كَاتِمَا

فَأَبْدَيْتُ مِنْ جُرَّاهُ مُزْجَى بِضَاعَتِي ** وَأَمَّلْتُ عَفْوًا مِنْ إِلَهِي وَمَرْحَمَا

فَمَا خَابَ عَبْدٌ يَسْتَجِيرُ بِرَبِّهِ ** أَلَحَّ وَأَمْسَى طَاهِرَ الْقَلْبِ مُسْلِمَا

وَصَلُّوا عَلَى خَيْرِ الآنَامِ مُحَمَّدٍ ** كَذَا الآلِ وَالأَصْحَابِ مَا دَامَتْ السَّمَا

والله أعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.